أول الرماة في سبيل الله
سعد بن أبي وقاص
إنه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ، أحد السابقين إلى الإسلام ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
وكان سعد قد رأى وهو ابن سبع عشرة سنة في منامه أنه يغرق في بحر الظلمات ، وبينما هو يتخبط فيها ، إذ رأى قمرًا فاتبعه ، وقد سبقه إلى هذا القمر ثلاثة ، هم : زيد بن حارثة ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، ولما طلع الصباح سمع أن رسول الله ( يدعو إلى دين جديد ؛ فعلم أن هذا هو القمر الذي رآه ؛ فذهب على الفور؛ ليلحق بركب الساقين إلى الإسلام).
وتظهر روعة ذلك البطل عندما حاولت أمه مرارًا أن ترده عن طريق الإيمان عبثًا ، فباءت محاولاتها بالفشل أمام القلب العامر بالإيمان ، فامتنعت عن الطعام والشراب ، ورفضت أن تتناول شيئًا منه حتى يرجع ولدها سعد عن دينه ، ولكنه قال لها : أماه إنني أحبك ، ولكن حبي لله ولرسوله أكبر من أي حب آخر.
وأوشكت أمه على الهلاك ، وأخذ الناس سعدًا ليراها عسى أن يرق قلبه فيرجع عما في رأسه ، فيقول لها سعد : يا أماه ، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ، ما تركت ديني فإن شئت كلي ، وإن شئت لا تأكلي ، وعندها أدركت الأم أن ابنها لن يرده عن دينه شيء ؛ فرجعت عن عزمها وأكلت وشربت لينزل وحي الله -عز وجل- يبارك ما فعل سعد ، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان: 15].
و لازم سعد -رضي الله عنه- رسول الله بمكة حتى أذن الله للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة ، فهاجر مع المسلمين ليكون بجوار رسول الله في محاربة المشركين ، ولينال شرف الجهاد في سبيل الله ، وحسبه أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دماء الكافرين ، فقد بعث رسول الله سرية فيها سعد بن أبي وقاص إلى مكان في أرض الحجاز اسمه سابغ ، وهو من جانب الجحفة ، فانكفأ المشركون على المسلمين ، فحماهم سعد يومئذ بسهامه ، فكان أول قتال في الإسلام.
ويوم أحد ، وقف سعد يدافع عن رسول الله ، ويحارب المشركين ، ويرميهم حتى نالته دعوة الرسول حين رآه فسر منه وقال : "يا سعد ، ارم فداك أبي وأمي" [متفق عليه]،
فكان سعد يقول : ما جمع رسول الله أبويه لأحد قبلي ، وكانت ابنته عائشة بنت سعد تباهي بذلك وتفخر، وتقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله يوم أحد بالأبوين.
وذات يوم مرض سعد ، فأتاه رسول الله ليزوره ويطمئن عليه فتساءل سعد قائلاً : إن قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي ؟
فقال له النبي : لا
فقال سعد : بالشطر (نصفه)
قال النبي : لا، ثم قال: "الثلث ، والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في فيّ (فم) امرأتك" [متفق عليه].
وقد رزق الله سعدًا الأبناء ، فكان له إبراهيم ، وعامر، وعمر، ومحمد ، وعائشة.
وقد كان رسول الله يحب سعدًا ، فعن جابر قال : كنا مع رسول الله ، إذ أقبل سعد ، فقال : "هذا خالي ، فليرني امرؤ خاله" [الترمذي والطبراني وابن سعد].
وكان سعد مستجاب الدعوة أيضًا ، فقد دعا له النبي قائلا : "اللهم استجب لسعد إذا دعاك [الترمذي].
وعين سعد أميرًا على الكوفة ، أثناء خلافة الفاروق عمر -رضي الله عنه- الذي كان يتابع ولاته ويتقصى أحوال رعيته ، وفي يوم من الأيام اتجه عمر -رضي الله عنه- إلى الكوفة ليحقق في شكوى أهلها أن سعدًا يطيل الصلاة ، فما مر عمر بمسجد إلا وأحسنوا فيه القول ، إلا رجلا واحدًا قال غير ذلك ، فكان مما افتراه على سعد : أنه لا يعدل في القضية ، ولا يقسم بالسوية ، ولا يسير بالسرية -يخرج بالجيش- فدعا سعد عليه قائلاً : اللهم إن كان كاذبًا ، فاعم بصره ، وأطل عمره ، وعرضه للفتن ، فكان ذلك الرجل يمشي في الطريق ويغمز الجواري وقد سقط حاجباه من عينيه لما سئل عن ذلك قال : شيخ مفتون ، أصابته دعوة سعد.
وذات يوم سمع سعد رجلاً يسب عليّا وطلحة وال...ر، فنهاه فلم ينته ، فقال سعد للرجل : إذن أدعو عليك ؛ فقال الرجل : أراك تتهددني كأنك نبي ؛ فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين ، رفع يديه وقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقوامًا سبقت لهم منك الحسنى ؛ وأنه قد أسخطك سبه إياهم ؛ فاجعله آية وعبرة ؛ فلم يمر غير وقت قصير حتى خرجت ناقة هوجاء من أحد البيوت ، وهجمت على الرجل الذي سب الصحابة فأخذته بين قوائمها وما زالت تتخبط حتى مات.
وحينما اشتد خطر الفرس على حدود الدولة الإسلامية أرسل إليهم الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جيشًا بقيادة سعد بن أبي وقاص ، ليقابلهم سعد في معركة القادسية ، واشتد حصار المسلمين على الفرس وأعوانهم ، حتى قتل الكثير منهم وعلى رأسهم القائد رستم ، ودب الرعب في باقي جنود الفرس فكان النصر العظيم للمسلمين يوم القادسية ، ولم يكن لسعد هذا اليوم فقط في قتال الفرس بل كان هناك يوم مجيد آخر للمسلمين تحت قيادته في موقعة المدائن ؛ حيث تجمع الفرس في محاولة أخيرة للتصدي لزحف المسلمين ، وأدرك سعد أن الوقت في صالح الفرس فقرر أن يهاجمهم فجأة ، وكان نهر دجلة قد امتلأ عن آخره في وقت الفيضان ، فسبحت خيول المسلمين في النهر وعبرته إلى الضفة الأخرى لتقع المواجهة ، ويحقق المسلمون نصرًا كبيرًا.
وعندما طعن أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ، اختار عمر ستة من المسلمين ليتم اختيار خليفة منهم ، وأخبر عمر أن الرسول مات وهو عنهم راض ، وكان من هؤلاء الستة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ، حتى قال عمر: لو كنت مختارًا للخلافة واحدًا لاخترت سعدًا، وقال لمن حوله : إن وليها سعد فذاك ، وإن وليها غيره فليستعن بسعد ، فكان عثمان بن عفان يستعين به في كل أموره.
وحدثت الفتنة آخر أيام الإمام علي -رضي الله عنه- فكان سعد بعيدًا عنهم واعتزلها وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا إليه شيئًا من أخبارها.
وعندما جاءه ابنه عامر يطلب منه أن يقاتل المتحاربين ويطلب الخلافة لنفسه ، قال سعد في شفافية المسلم الصادق : أي بني ، أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسًا ؟؟ لا والله حتى أعطي سيفًا ، إن ضربت به مسلمًا نبا عنه (أي لم يصبه بأذى) ، وإن ضربت به كافرًا قتله ، ولقد سمعت رسول الله يقول: "إن الله يحب الغني الخفي التقي" [أحمد ومسلم].
وفي سنة (55هـ) أوصى سعد أهله أن يكفوه في ثوب قديم كان عنده ، وياله من ثوب يشرف به أعظم أهل الأرض ، قال لهم : لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر ولقد ادخرته لهذا اليوم.
وتوفي رحمة الله عليه بالعقيق ، فحمل على الأعناق إلى المدينة ودفن بها ليكون آخر من مات من العشرة المبشرين بالجنة وآخر من مات من المهاجرين -رضي الله عنهم-.