رسول الله رحمة للعالمين
إن الرحمة صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، ومن عظيم رحمة الله أنه أرسل محمدًا وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. رحمةً للبشريَّة كلها ، فكان الرسول الرحمة ؛ لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
ولذلك كان رسول الرحمة رسول الله كثيرًا ما يقول : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ". فكانت رحمة رسول الله عامَّة للناس جميعًا، وخاصَّة كذلك لأُمَّته، ولننظر إلى حديث رسول الله الذي قال فيه : "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا". فهذه رحمة غير مسبوقة، لا يماثلها أو يقترب منها رحمة في العالم.
رسول الله رحمة للعالمين
لقد بعث الله رسول الله رحمة للعالمين، فقد شملت رحمة رسول الله الكبار والصغار، والرجال والنساء، والقريب والبعيد، بل الصديق والعدوَّ، كما أنها كذلك ليست محدودة بمكان أو زمان، وإنما هي لكل العالمين منذ بعثته إلى يوم الدين؛ لذلك نجده يُعَلِّم أُمَّته خُلُق الرحمة قائلاً : "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ".
فالرحمة التي ظهرت في كل أقوال وأعمال رسول الله لم تكن رحمة مُتكلَّفة، تَحْدُث في بعض المواقف من قبيل التجمُّل أو الإصطناع، إنما كانت رحمة طبيعيَّة تلقائيَّة مُشاهَدة في كل الأحوال، برغم إختلاف الظروف وتعدُّد المناسبات، حتى إن هذه الرحمة غلبت على كل أخلاقه فصارت أبرزها، وليس هذا عجيبًا؛ فإن المتدبِّرَ في القرآن الكريم يجد أن أبرز الصفات الأخلاقية التي وردت في رسول الله كان خلق الرحمة.
(الأخلاق في القرآن الكريم)
صور من رحمة رسول الله
رحمة رسول الله بكبار السن والأطفال
أمّا عن صور الرحمة في حياة رسول الله فهي لا تعد ولا تحصى، ولننظر إلى رحمته بكبار السنِّ والأطفال؛ فعن رسول الله أنه قال : "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا". فما أعظم هذا المجتمع الذي ربَّاه النبي ليتراحم الجميع فيما بينهم إمتثالاً لأقواله.
رحمة رسول الله بالمخطئين
ونجد رسول الله رءوفًا رحيمًا بالمخطئين، الذين جاءوا يعترفون بذنوبهم، فقد لا يستطيع أحدهم أن يرفع عن نفسه حرج الذنب، فيأتي لرسول الله لعلَّه يرفع عنه ما أسرفه على نفسه، وسيرته مليئة بالشواهد الدالَّة على ذلك، ومن أمثلة ذلك ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه فيقول : بينما نحن جلوسٌ عند النبيِّ إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله هلكْتُ. قَالَ : "مَا لَكَ؟" قال : وقعتُ على إمرأتي وأنا صائمٌ. فقال رسول الله : "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟" قال: لا. قال: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟" قال: لا فقال: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟" قال: لا.
قال: فمكث النَّبيُّ فبينا نحن على ذلك أُتِيَ النبيُّ بِعَرَقٍ فيها تمر، قال: "أَيْنَ السَّائِلُ؟" فقال: أنا. قال: "خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ". فقال الرَّجل: أعلى أفقر منِّي يا رسول الله؟ فواللَّه ما بين لابَتَيْهَا-يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي. فضحك النبيُّ حتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثمَّ قال: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ".
فما أرحم هذا التعامل من رسول الله فقد ظلَّ يُعَدِّد عليه وسائل الكَفَّارة بلا إنفعال أو غضب، بل قابل الأمر بالإبتسامة التي تعطي المخطئ نوعًا من الإطمئنان النفسي، وعندما أبدى الرجل عجزه عن فعل أيٍّ منها لم ينزعج رسول الله ؛ بل جاء له بتمر صدقةٍ أتاه، وقال له: خذ هذا التمر وكفِّر به عن ذنبك.
رحمة رسول الله في مجال العبادة
وظهرت رحمة رسول الله كذلك في مجال العبادة؛ فقد شكا إليه رجل، فقال : والله يا رسول الله، إني لأتأخَّر عن صلاة الغداة من أجل فلان ممَّا يُطيل بنا. فما رأيتُ رسول الله في موعظة أشدَّ غضبًا منه يومئذ، ثم قال : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ".
رحمة رسول الله مع الأسرى
كما تجلَّت مظاهر الرحمة في تعامل رسول الله مع الأسرى؛ فهاهي سفانة ابنة حاتم الطائي التي أُسِرت في حرب مع قبيلة طيِّئ، فجُعِلَت في حظيرة بباب المسجد، فمرَّ بها رسول الله ؛ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلة؛ فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد[14]، فامْنُنْ علَيَّ مَنَّ الله عليك... فقال رسول الله : "قَدْ فَعَلْتُ، فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إلَى بِلادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي".
تقول ابنة حاتم الطائي: وأقمْتُ حتى قَدِمَ رَكْبٌ من بَلِيٍّ أو قضاعة، وإنما أُرِيد أن آتي أخي بالشام، فجئتُ فقلتُ: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغ. قالت: فكساني، وحَمَلَني، وأعطاني نفقة، فخرجتُ معهم حتى قَدِمْتُ الشام.
وهنا وقفة مع هذا الموقف العظيم؛ نرى فيه بوضوح هذا التعامل الإنساني الرحيم من رسول الله لها أن تخرج منفردة وحيدة، بل طلب منها ألاَّ تتعجَّل بالخروج حتى تجد من قومها مَنْ يكون ثقة فتسير معه. مع هذه الأسيرة؛ حيث لم يَرْضَ الرسول الكريم.
رحمة رسول الله بالحيوان
بل إن رحمة رسول الله تجاوزت البشر لتصل إلى الحيوان، من الدوابِّ والأنعام، والطير والحشرات، فنرى في سيرته أنه يخبر عن زانية غفر الله لها لتحرُّك الرحمة في قلبها لكلب! وتتجاوز رحمته البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، ولننظر إلى رحمته بعصفور! حيث يقول رسول الله : "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ".