أعظم الكنوز للإمام ابن القيّم رحمه الله
تدبر القرآن وتعقله هو المقصود بإنزاله ، لا مجرد تلاوته بلا فهم و لا تدبر؛
قال الله تعالى : ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[ص : 29] ،
و قال تعالى : ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد : 24] ،
و قال تعالى : ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾[المؤمنون : 68] ،
و قال تعالى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[الزخرف : 3]
و قال الحسن : نزل القرآن ليُتدبر و يُعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا ، فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده ، و أقرب إلى نجاته من تدبر القرآن و إطالة التأمل وجمع منه الفكر على معاني آياته فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما و على طرقاتهما و أسبابهما و غاياتهما و ثمراتهما ومآل أهلهما وتَتُلَّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة و تثبِّت قواعد الإيمان في قلبه و تشيد بنيانه و توطد أركانه و تريه صورة الدنيا و الآخرة و الجنة و النار في قلبه و تُحْضِره بين الأمم و تريه أيام الله فيهم و تبصره مواقع العبر و تُشهده عدل الله و فضله و تعرفه ذاته و أسماءه و صفاته و أفعاله و ما يحبه و ما يبغضه و صراطه الموصل إليه و ما لسالكيه بعد الوصول و القدوم عليه و قواطع الطريق و آفاتها و تعرفه النفس و صفاتها و مفسدات الأعمال و مصححاتها و تعرفه طريق أهل الجنة و أهل النار و أعمالهم و أحوالهم و سيماهم و مراتب أهل السعادة و أهل الشقاوة و أقسام الخلق و إجتماعهم فيما يجتمعون فيه و إفتراقهم فيما يفترقون فيه و بالجملة :
1- تعرفه الرب المدعو إليه
2- و طريق الوصول إليه
3- و ما له من الكرامة إذا قدم عليه
و تعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى :
1- ما يدعو إليه الشيطان
2- و الطريق الموصلة إليه
3- و ما للمستجيب لدعوته من الإهانة و العذاب بعد الوصول إليه
فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها و مشاهدتها و مطالعتها ، فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها و تغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها و تُمَيِّز له بين الحق و الباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقا و الباطل باطلا ، و تعطيه فرقاناً و نوراً يفرق به بين الهدى و الضلال وا لغي و الرشاد ،
و تعطيه قوةً في قلبه و حياة و سعة و إنشراحا و بهجة و سروراً فيصير في شأن و الناس في شأن آخر.
فإن معاني القرآن دائرة على :
التوحيد وبراهينه.
والعلم بالله و ماله من أوصاف الكمال و ما ينزه عنه من سمات النقص.
و على الإيمان بالرسل و ذكر براهين صدقهم و أدلة صحة نبوتهم و التعريف بحقوقهم وحقوق مرسلهم.
و على الإيمان بملائكته و هم رسله في خلقه و أمره و تدبيرهم الأمور بإذنه و مشيئته و ما جُعلوا عليه من أمر العالم العلوي و السفلي ، و ما يختص بالنوع الإنساني منهم من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه و يقدم عليه.
و على الإيمان باليوم الآخر و ما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا يشعرون فيها بألم و لا نكد و لا تنغيص ، و ما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التي لا يخالطها سرور و لا رخاء و لا راحة و لا فرح و تفاصيل ذلك أتم تفصيل و أبينه.
و على تفاصيل الأمر والنهي ، و الشرع و القدر، و الحلال و الحرام ، و المواعظ و العبر، و القصص و الأمثال ، و الأسباب و الحكم و المبادىء و الغايات في خلقه و أمره.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل.
و تحذره و تخوفه بوعيده من العذاب الوبيل.
و تحثه على التضمر و التخفف للقاء اليوم الثقيل.
و تهديه في ظلم الآراء و المذاهب إلى سواء السبيل .
و تصده عن إقتحام طرق البدع و الأضاليل .
و تبعثه على الإزدياد من النعم بشكر ربه الجليل .
و تبصره بحدود الحلال و الحرام و توقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل .
و تثبت قلبه عن الزيغ و الميل عن الحق و التحويل .
و تسهل عليه الأمور الصعاب و العقبات الشاقة غاية التسهيل .
و تناديه كلما فترت عزماته و ونى في سيره : تقدم الركب ، و فاتك الدليل ، فاللحاق اللحاق ، و الرحيل الرحيل .
و تحدو به و تسير أمامه سير الدليل .
و كلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته : الحذر الحذر ! فاعتصم بالله واستعن به و قل : حسبي الله ونعم الوكيل .
و في تأمل القرآن وتدبره وتفهمه : أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد.
و بالجملة :
فهو أعظم الكنوز ، طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه :
نزه فؤادك عن سوى روضاته .... فرياضـه حـل لكـل مـنزه
و الفهم طلسم لكنز علومـه .... فاقصد إلى الطلسم تحظ بكـنزه
لا تخش من بدع لهم و حوادث .... ما دمت في كنف الكتاب و حرزه
من كان حارسه الكتاب و درعه .... لم يخش من طعن العدو و وخزه
لا تخش من شبهاتهم و احمل إذا .... ما قـابلتك بنصـره و بعـزه
و الله ما هاب امـرؤ شبهاتهم .... إلا لضعف القلب منه و عجزه
يا ويح تيس ظالـع يبغي مسا .... بقة الهزبر بعـدوه و بجمـزه
و دخان زبل يرتقى للشمس يس .... تر عينها لمـا سـرى في أزه
و جبان قلب أعزل قد رام يأس .... ر فارساً شاكى السلاح بهزه
من كتاب : مدارج السالكين بن منازل إياك نعبد وإياك نستعين ص 368