من سيرة بن هشام: عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن ال...ر، أن أباه حدثه: أن رجلا من لهب - قبيلة - كان متكهنا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويتكهن لهم فيهم. فأتى أبو طالب برسول الله وهو غلام، مع من يأتيه، فنظر إليه، ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام على به، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيَّبه عنه، فجعل يقول: ويلكم، ردوا على الغلام الذى رأيت آنفا، فوالله ليكونن له شأن. فانطلق به أبو طالب ولم يعد.
ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير تعلق به رسول الله فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني، ولا أفارقه أبدا، فخرج به معه.
فلما نزل الركب بُصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهبا يصير إليه علمهم عن كتاب فيها، يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام. فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك عن شيء رآه و هو في صومعته، وذلك أنه رأى رسول الله ، وهو في صومعته، في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبل القوم فنزلوا في ظل شجرة قريبا من بحيرى، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله حتى استظل تحتها؛ فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بذلك الطعام، فصنع ثم أرسل إليهم، فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم، فما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله من بين القوم، لحداثة سنه، فى رحال القوم تحت الشجرة؛ فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي؛ قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم؛ فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؛ وإنما قال له بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فقال له رسول الله : لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما؛ فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه؛ فقال له: سلنى عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره؛ فجعل رسول الله يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده -
قال ابن هشام: وكان مثل أثر المحجم - فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني.
قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخي؛ قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به؛ قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
وقالوا: أن زريرا وتماما ودريسا، وهم نفر من أهل الكتاب، قد كانوا رأوا من رسول الله مثل ما رآه بحيرى فى نقس السفر، الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.