أتـى اليومُ الذي ما مِنـه بُـــدُّ
ولا مِنْ بعـدِهِ في العمرِ بَعْــدُ
وكنتُ أظنُّــــهُ عنـــي بعيـــداً
إلى أنْ جاءَ مثلَ الريحِ يعـدو
كأنّي لـم أعشْ مـن قبلُ يوماً
ولـم يعبثْ بنبضِ القلـبِ جُهدُ
ولـم أُرضِعْ صغيراً ما بقلبـي
كما لـو أنّ هـذا القلبَ نهـــدُ
تُرى هـل بينَنا يا مــوتُ ثأرٌ
قـديمٌ جئتَ تطلُبُــهُ وحقـــدُ؟
أم الشـوقُ الذي تخفيــه حيناً
على مضضٍ وحين تجوعُ يبدو؟
بـِودّي لـو تجرّبُ مــا نعانـي
وتـُدركُ ما الـذي يَعنيـهِ فَقــدُ
وكيف بنا تُحسُّ وهـل سيحنو
علـى ضـدٍّ من الأضدادِ ضـدُّ؟
فكيـفَ وأنتَ مـــا ولدتـــكَ أمٌ
ولـم تُنْجِب ولم يحضنكَ مهـدُ؟
وتحيـا بيننا مــن غيـــرِ قلبٍ
وإن يـكُ فيك قلبٌ فهو صلدُ؟
أنا الأمُ التـي خُلقـتْ لتُعطــي
ومـــا لعطائهــــا إلاكَ حــــدُّ
أنا الأمُ التي انتظـرتْ طويــلاً
ولـم يفِ حَقها في الخلقِ فردُ
أنا بحـرُ العطـاءِ وكـلُ بحـــرٍ
سـوايَ أنا لــه جــزرٌ ومـــدُّ
أجـودُ بمـا لـديَّ ولا أبالـــي
إذا مـا نابنـي هجـرٌ وصــــدُّ
***
فيـا أحبـابَ قلبـي صدِّقونــي
قضـاءُ الله لـم يكتبْـــهُ نَـــرْدُ
هـو القدرُ الذي إنْ قـالَ شيئاً
فمـا فـي قولـــــهِ أخـــذٌ وردُّ
ويبـدو أنني استوفيْتُ عُمري
ورزقـيَ كلَّــهُ واليـومَ جَـــردُ
وعشـتُ بقدرِ ما يكفـي وهذا
نصيبي في الحياةِ فـلا تَحِـدُّوا
ولا تبكــوا علـيَّ فذاتَ يــومٍ
سيجمعُنـا إلـى الجنّاتِ خلـــدُ
وهـذي حــالُ دنيانا فشـــيءٌ
بهـا يَفنـى وشـيءٌ يَستجــــدُّ
وهـل أعطـت لنا الأيامُ شيئاً؟
فلـم تأخذْهُ أو هـلْ دامَ سعــدُ؟
ومـا الأرواح فـي الأجسادِ إلا
ودائــــع ذات يـومٍ تُستـــــردُّ
ولـو أنَّـا سَـــددنا كــــلَ بابٍ
سيبقـى المــوتُ باباً لا يُسـدُّ
ننازعـهُ السعادةَ دونَ جدوى
ومَـنْ منّا لهـذا المـوتِ نِــــدُّ
ولا ننفــكُّ نطلبهــــا كحُلــــمٍ
ودونَ بُلوغِها للمـوتِ عهـدُ
وتبقـى مثلَمـا كـانت ســراباً
ضحـاياهُ الكثيـرةُ لا تُعــــــدُّ
***
لقـد أغضبتُكـــم زمناً طويـلاً
بقــولٍ كلّــــهُ عَتبٌ ونَقــــــدُ
وكنتُ أظُــنُّ أنِّــــي بانتقادي
أُتَمِّمُ مـا بَنيـتُ ولا أهُــــــــدُّ
فإنْ آذيتُكـمْ وجرحـتُ فيكــمْ
مشاعِرَكـمْ فمـا لي فيه قصدُ
وإنْ عاتبتُكــمْ فعتـــــــابُ أمٍّ
لكــمْ فــي قلبهـــا سَنَدٌ يَـردُّ
وعـذراً إن قسـوتُ به قليــلاً
ففـي بعضِ العتابِ المرِّ شهدُ
أكـانَ علـيَّ أنْ أختارَ موتـي
ليجمـعَ بينكــــــم حـــبٌ وودُّ
وأنْ أُخلـي مكاني كـي يراني
حبيبٌ ربمــــا أعمـاهُ وَجــــدُ
فكـم شيءٍ توارى عنْ عيونٍ
لشــــدَّةِ قُربـــــهِ أبداهُ بعـــــدُ
وكــم شيءٍ تراه العين شــرَّاً
وفـي أعماقــهِ بالخيرِ وعـــدُ
وكـم من أنفسٍ بالحزن طابت
ولـمَّ قلوبهـا بالحــزن عِقــــدُ
ولـو أدركـتُ أنْ سيجيءُ يومٌ
ويَجمعُكـــم أمـامَ القبــــرِ وَردُ
لكنتُ اختـرتُ مَوتيْ من زمانٍ
ولكـنْ دونَ علـــمِ الغيبِ سَـــدُّ
بـودِّي لــو أعانقكــــم قليــــلاً
لتُشـرق بسمــةٌ ويجفَّ خـــــدُّ
وآتـي تحتَ جُنـحِ الليــلِ طيفاً
لأحضنَكـم إذا مـا اشتدَّ بَــــردُ
فـإنْ نمتـم أقبِّلكــمْ وأمضـــي
إلـى بيتـي فبيتـي الآنَ لحـــدُ
وأرجـعُ مع رحيلِ الليلِ فجراً
كعصفـورٍ على الشُّباكِ يَشدو
أسجِّـلُ مـا أراه علـــى شريطٍ
من الذكرى يروحُ معي ويغدو
***
أحبَّائــــي رحلــــتُ بـلا وداعٍ
وبي شـوقٌ لكـي أبقـى يشــدُّ
كـأن المـوت يعنـي كلَّ حـــيٍّ
سـوايَ أنا وعُمـري لا يُحـــدُّ
شُغلتُ عن الوصيَّة في حياتـي
بدنيـا كلُّهــــا هــــــمٌّ وكــــــــدُّ
وهـا أنذا أقـولُ لكـــــم بموتي
ليــومٍ مثـــل هــــــذا إِستعدُّوا
فإنَّ المـوت يعمـلُ في خفاءٍ
ولا أحــدٌ يُحسُّ بمـا يُعــــــدُّ
يُصـوِّبُ كــــل آونـــــــةٍ إلينا
سهامـاً لا تَطيشُ ولا تُـــــرَدُّ
سهامٌ لا تُفـرقُ بين كهـــــــلٍ
وطفـلٍ لـم يزلْ في المهدِ بعدُ
لكـم مـن هـــذه الدنيا نصيبٌ
فـلا يَذهبْ بـه سَفـــهٌ وزُهـدُ
وجِـدّوا فـي عبادَتِكـــم فإنــي
وجـدتُ اللهَ لا يُجزيـهِ حَمـــدُ
ومـن يجعـل له الرَّحمنُ نوراً
يسيرُ بـه فلـن يُؤذيــه كيـــدُ
وكونـوا للحقيقــةِ أوفيـــــاءً
فـلا أحــــــدٌ بـرأيٍ يستبـــدُّ
ومــا أهـــواؤنا إلا مـــــرايا
ترينـا مـن هو الخصـم الألدُّ
إذا الشيطان فرَّقكـم فكونــوا
كأجفـانٍ يفرقهــــــنَّ سُــهدُ
وكونوا في خصومتكـم غيوماً
يسـابقُ غيثَهـا بـرقٌ ورعــدُ
يهـونُ الصعبُ حين يرى أيادٍ
تصيـرُ يـداً إذا ما جَــــدَّ جِــــدُّ
وأمـا أنتَ يـا مـنْ كـــلَّ يـــومٍ
تُحرِّرنـا يـداكَ وأنتَ عَبــــــــدُ
لقدْ حرّرْتَني مـن أسرِ جسمي
فـإنَّ الجســـمَ للأرواحِ قيــــدُ
وفي جسمي من الأدواءِ ما لمْ
يُطـقْ جبلٌ علـى الأهوالِ جَلْــدُ
أَخذتَ بأخـذهِ خجلي وخوفـي
فهــــا أنـذا أبـــوح بمــــا أَودُّ
أسـلُّ القول حين أريدُ ما لـــي
سوى صمتي لهـذا القول غِمدُ
فكمْ خجلي بنى لي من سجونٍ
علـى أرجائهـا حرسٌ وجنــــدُ
وكـم خوف الملامة شلَّ عقلي
ونغَّصَ عيشتي والعيشُ رغـدُ
ولكـــــن ما يُعزِّي الـروح أنّي
أموتُ ولي مـنَ الأحبابِ حَشدُ
وأنكَ حينمـا ستمـوتُ يومـــاً
وحيداً ســوفَ لـن يَبْكيكَ وُلْدُ
الدكتور : طاهر عبد المجيد
[b]