مقالة فلسفية حول مصدر (منبع،أساس) المعارف الإدراكية.
هل المعارف الإدراكية تعود إلى العقل ؟
تعتبر فلسفة المعرفة من الموضوعات المطروحة على الساحة الإنسانية كونها تهتم بالقدرات العقلية للإنسان و بعلاقته مع العالم الخارجي، و من البديهي أنه يتفاعل مع هذا العالم. و نتيجة لهذا التفاعل تمكن من الوصول إلى الكثير من المعارف المتعلقة بأسرار هذا الوجود.لكن عندما نعود إلى طبيعة الدراسات التي أقامها الباحثون في هذا المجال ندرك ذلك الاختلاف القائم بينهم في تفسير طبيعة المعرفة و بيان مصدرها.
و من هذا المنطلق يحق لنا طرح الإشكال في الصورة التالية: هل معارفنا الإدراكية تعود إلى العقل؟
إنّ البحث عن أساس المعرفة و طبيعتها هو بحث له تاريخ قديم في نظرية المعرفة، إذ أنه اتسم باحتدام الجدل و الخلاف بين العقليين و التجريبيين حول أساس المعرفة.
فأصحاب المذهب العقلي يقومون على مسلمة أساسية هو أنّ الإدراك مرتبط بالعقل و هو فعالياته العليا لذلك يعتبر أساس معرفة الأشياء و الموضوعات و مصدر إضفاء المعاني و الصفات و تفسيرها و تسميتها، كما أنّ الإدراك يمثل فعالية العقل العقل الإيجابية، و هو أساس المعرفة الحقة. ضف إلى ذلك أنه يبحث في ماهية الأشياء و معانيها المجردة و إطلاق الأحكام اليقينية التّي تعرف بها، و لهذا يقول بركلي:"وجود الشيء قائم في إدراكي أنا له" و من هنا يمكننا القول أنّ الإحساس بعيد عن تقديم المعرفة لكنه عامل فيها لقول أرسطو:"الإحساس لا يمدنا بالمعرفة و لكن ضروري لحدوثها". فمثلا معرفة المكان و الامتداد ليست وليدة الإحساس بل هي نتيجة حكم نصدره عند تفسير المعطيات الحسية عن طريق المقابلة بين أبعادها الظاهرية، فمثلا ألان عندما ردّ المعرفة إلى العقل استدل بالمكعب الذي عند رؤيتنا له يتضح أن لده ثلاثة أوجه في حين العقل يأكد لنا بأنه يشتمل على ستة أوجه، كماهو مبين في الشكل:
فنقول أنّ معارفنا تعود إلى العقل وحده. فالمكعب شيء معقول و ليس محسوس. و كذلك أفلاطون في تفسيره لمصدر المعرفة من خلال تقسيمه لعالم المثل و الواقع من خلال قوله:"إنّ النفس الإنسانية كانت عالمة بكل شيء قبل اتصالها بالجسد و لكنها عندما اتحدت به نسيت". و يعني أنّ الإنسان يحمل الكثير من المفاهيم في ذهنه لا مقابل لها في الواقع كالمجال الميتافيزيقي و على هذا الأساس فإنّ مصدر المعرفة عند أصحاب المذهب العقلي هو العقل.
مما لاشك فيه أنّ ما جاء به العقليون سليم إلى حد ما و لكن عندما نتأمل طبيعة الحقائق التّي جاد بها العقليون نلاحظ بأنها تشمل على الكثير من المبالغات. ذلك أنّ معارفنا تحتوي على الكثير من الملابسات الحسية.
أما أصحاب المذهب التجريبي فيقومون على مسلمة مفادها أنه لا يوجد شيء في العقل إلا و له ما يقابله في الحس بحيث أنهم يرون أنّ الإحساس و التجربة الحسية مقياس المعرفة و مصدرها الأول. و أنّ كل ما يحصل لدينا من معارف و مكتسبات يرد إلى العالم الحسي الخارجي و لهذا أنكروا القول بمبادئ فطرية مرتبطة بالعقل أو بمعارف قبلية أو بأحكام مجردة لأنّ كل المعارف عندهم بعدية تكتسب بالتجربة الحسية قال جون لوك:" يولد الطفل صفحة بيضاء نكتب عليها ما نشاء". و لهذا فكل المدركات العقلية ماهي في الحقيقة إلا خبرات مكتسبة يحصلنا عليها شيئا فشيئا نتيجة انطباعات صور المحسوسات لدينا و ما العقل الإدراكي إلاّ مرآة عاكسة لهذه المحسوسات فلا وجود لشيء أو معرفة في الإدراك ما لم يكن من قبل في الحس لذلك من فقد حاسة من الحواس فقد فَقَدَ علما من العلوم. و من بين النماذج التّي توحي بأنّ المعارف الإدراكية أساسها التجربة تلك النشاطات التّي يقوم بها الباحثون فمثلا العناصر الأساسية التّي يتشكل منها الماء كانت مجهولة عند السابقين أمثال ابن سينا، و لكن بعد ظهور لافوازيه أصبح الإنسان بمقدوره التعرف على المركبات التّي يتشكل منها و تتمثل في H2O و مثل هذه الحقيقة توضح لنا و تدل دلالة واضحة على أنّ الإنسان لم يتمكن من وضع هذه المفاهيم إلاّ من خلال التجاءه إلى التجارب الحسية.
و حتى على المستوى البيولوجي فإنّ عملية التركيب الضوئي لم يدرك الإنسان أسرارها إلاّ بفضل الخبرة الحسية القائمة على الأسس التجريبية. و الشواهد التّي تدل على أنّ المفاهيم أصلها يعود إلى المعطيات الحسية ليست محصورة في هذا الجانب فحسب بل تتعداه إلى العلوم العقلية الخالصة و على سبيل المثال فكرة المثلث كمفهوم رياضي لم يرتقي إلى ذهن الإنسان إلاّ من خلال احتكاكه بالوقائع الحسية بحيث استلهمه من مشاهدته لقمم الجبال.
لكن عندما نتصفح طبيعة هذه التصورات التّي جاءنا بها الذهنيون نلاحظ بأنّ هناك مفاهيم يحملها الإنسان في ذهنه و لا مقابل لها في الواقع كالمسائل التّي لها صلّة بالمجال الميتافيزيقي.
لقد حاول أب الفلسفة النقدية إيمانويل كانط تقديم إجابة شاملة لهذه الإشكالية المتعلقة بفلسفة المعرفة انطلاقا من تساؤله المشهور "ماذا يمكنني أن أعرف؟" فاهتدى إلى أنّ هناك معارف تجريبية لها عبلقة بخبرة الإنسان الحسية، و قد جسد هذه الفكرة في قوله:" المفاهيم العقلية دون قوالب حسية جوفاء، و القوالب الحسية دون المفاهيم عقلية عمياء".
مما سبق يتبيّن لنا بوضوح بأنّ العقل يعتبر من أهم الأدوات الأساسية في بناء المعارف الإدراكية، إلاّ أنه لا يعتبر العامل الضروري الوحيد نظرا لوجود عنصر آخر لا يقل عنه أهمية و يتمثل في التجربة. و منه يمكن أن نخلص إلى أنّ المعارف الإدراكية ماهي في حقيقة الأمر إلاّ محصلة التفاعل القائم بين العقل و التجربة معا.