الوصف لمستوى أحادى أو لشعور واحد أمر سهل ميسور ، فلو أردت أن أصف الحزن فإن الكلمات المتصلة بالحزن كالأسى و البكاء و الدموع ستساعد على الاسترسال بل و على دقة الوصف.
أما الصعوبة فإنها تنبع من جمع نقيضين للتعبير عن معنى واحد كما جاء فى الآية القرآنية التى جمعت نقيضين : ( الحي و الميت ) في قوله تعالى ( يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي ) و مصدر الجمال هنا القدرة على التعبير بالنقضين عن شيء واحد . . . فضلا عما تتمتع به هذه الآية من قلب لأطراف الجملة يحدث تأثيرا تبعيديا على مستوى المعنى و الإيقاع.
و العرب قديما انتبهوا لأهمية التضاد و قالوا : ( الضد يكسب الضد معرفة ) و قالوا : ( . . و بضدها تتمايز الأشياء ).
و كان ( الحور ) محمودا عند العرب لأنه جامع لشدة البياض و شدة السواد كمقياس جمالي استمد أصوله من فطرة الانتماء إلى الكون بليله و نهاره.
و كما أن الجملة الشرطية تستدعى أجزاءها ( من جد . . . وجد ) فكذلك يتميز التضاد بأنواعه بالاستدعاء . . . فالصحة تذكرنا بالمرض ، و الحرب تذكرنا بالسلام و الجنة تذكرنا بالنار . . . و هذا الاستدعاء من النقيض إلى النقيض يمثل ميزة خاصة تجلى الفكرة و تزيدها جمالا و عمقا.
و درجات التضاد التعبيري ثلاث :
الطباق ، و المقابلة ، و التعارض الثنائي.
أ ـ الطباق : هو لغة الجمع بين معنيين متباينين سواء كان الجمع إيجابيا كقوله تعالى ( تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء ، و تعز من تشاء و تذل من تشاء ) أو يكون سلبيا كالجمع بين لفظين من مصدر واحد أحدهما مثبت و الآخر منفي مثل قوله تعالى : ( و ترى الناس سكارى ، و ما هم بسكارى ، و لكن عذاب الله شديد ).
ب ـ المقابلة : تضاد فى صياغة أوسع حيث نجد التضاد بين معنيين من خلال لفظين يقابلهما لفظان مضادان كقوله تعالى : ( فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا ) و هي مقابلة ثنائية و يمكن أن تكون ثلاثية كقوله تعالى : ( يحل لهم الطيبات ، و يحرم عليهم الخبائث ) ، و يمكن أن تزيد إلى رباعية و خماسية و تتحقق بين جملتين.
ج ـ التعارض الثنائي : و هو تقابل بين معنيين كبيرين كأن يكون بين فقرتين مثلا و كل فقرة تتناول المعنى المضاد للأخرى. و مسافته التعبيرية أوسع و يتوفر فى النصوص الأدبية كالقصة و غيرها.
و التعارض الثنائى يبرز جماله التعبيري بقوة و فاعلية كما نجد الوعد و الوعيد فى القرآن الكريم كقوله تعالى ( وعيد ) : ( هل أتاك حديث الغاشية ، وجوه يومئذ خاشعة ، عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ، تسقى من عين آنية ، ليس لها طعام إلا من ضريع لا يسمن ، و لا يغنى من جوع ).
و قوله تعالى : ( وعد ) : ( وجوه يومئذ ناعمة ، لسعيها راضية ، فى جنة عالية لا تسمع فيها لاغية ، فيها عين جارية ، فيها سرر مرفوعة و أكواب موضوعة ، و نمارق مصفوفة ).
و إذ نذكر بدرجات التضاد التعبيرية على مستوى اللفظة و الجملة و الفقرة لكي نتذوق جماليات التضاد . . . و على الرغم من صعوبته التكوينية كمستوى تعبيرى إلا أن التجريب و حفظ بعض الآيات و الأشعار و النصوص سيكسب خبرة تعبيرية للإستعانة بمستويات التضاد فى بنائها الجملي.
و لذلك نعمد إلى تزويدك ببعض الأبيات الشعرية . . . و بنص نثري لأبرز كتاب النثر العربى قديما و هو عبد الحميد الكاتب ، و قد كتب فى رسالة إلى أهله و هو مهزوم مع ( مروان بن محمد ) و قال : ( . . . أما بعد : فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره و السرور. و جعل فيها أقساما مختلفة بين أهلها. فمن درت له بحلاوتها ، و ساعده الحظ فيها سكن إليها و رضى بها و أقام عليها. و من قرصته بأظفارها و عضته بأنيابها قلاها نافرا عنها و ذمها ساخطا عليها ، و شكاها مستزيدا منها.
و قد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها ، و أرضعتنا من درها أفاويق استحليناها ثم شمست نافرة ، و أعرضت عنا متنكرة ، و رمحتنا مولية فملح عذبها ، و خشن لينها ففرقتنا عن الأوطان و قطعتنا عن الإخوان ، فدارنا نازحة ، و طيرنا بارحة ، قد أخذت كل ما أعطت و تباعدت مثلما اقتربت ، و أعقبت بالراحة نصبا ، و بالجذل هما ، و بالأمن خوفا ، و بالعز ذلا . . . لا ترحم من استرحمها ، سالكة بنا سبيل من لا أوبة له منفيين عن الأولياء ، مقطوعين عن الأحياء).
و من الأبيات الشعرية :
قال المتنبي :
أزورهم وسراد الليل يشفع لي . . وأنثني وبياض الصبح يغرى بي
و قال عبيد بن الأبرص :
الخير يبقى وإن طال الزمان به . . والشر أخبث ما أوعيت من زاد
و قال دعبل بن علي :
لا تعجبي يا سلم من رجل . . ضحك المشيب برأسه فبكى